أوراق الدوري في التاريخ والاقتصاد والمجتمع العربي الحـدث التأسيسـي والمفاصـل الحضاريـة

يتابع مركز دراسات الوحدة العربية إصداره الاعمال الكاملة لشيخ المؤرخين العراقيين والعرب الدكتور عبد العزيز الدوري، وهو المشروع الذي تتولى المساهمة في تمويل جزء من نفقات طبعه ونشره مؤسسة عبد الحميد شومان. حمل جديد الإصدارات الرقمين الثامن والتاسع في سياق هذه الأعمال.
يتناول الأول منهما العنوان التالي «أوراق في التاريخ والحضارة – أوراق في علم التاريخ»، اما الثاني فيحتفظ بالقسم الأول من العنوان السابق مضيفاً اليه «اوراق في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي». ويبدو أن كلا العنوانين كانا بحاجة الى تدقيق اكثر. اذ ان كلمة الاوراق مكررة مرتين في كل منهما وكذلك كلمتي التاريخ والحضارة وهما كلمتان غير محددتين. ما يدفع الى تسجيل هذه الملاحظة ان هناك محوراً يدور عليه كل من العملين كان من البديهي أن يتم التركيز عليه وإبرازه. فالعمل الاول يركز على الجانب التأريخي والثاني على جوانب في الاقتصاد والاجتماع.
ما يمكن أن يلاحظه أي باحث أن كلا العملين يحتويان على مجموعة كبيرة من المقالات التي كتبت في مراحل مختلفة وتندرج في سياق موضوعين مركزيين لدى المؤرخين المتخصصين، مستشرقين وعرباً. الأول منهما يتعرّض لعلم التاريخ والثاني للتاريخ الاقتصادي والاجتماعي والحضارة العربية والإسلامية. والمعروف أن مفهوم التاريخ وعلمه شغل حيزاً واسعاً من اهتمام رواد المدارس التاريخية ونهضة هذا العلم في المنطقة العربية بعد فترة طويلة من اعتماد المصادر الأصلية والمؤلفات اللاحقة الصادرة في مراحل الانحطاط.
يتأكد من خلال النصوص التي يتضمنها الكتاب الاول، عموماً خصوصاً الثلاث الاولى منها، ان الدوري ينفي ما يسمّى فلسفياً بالحتمية التاريخية. وهي حتمية تبدأ من الفكر الديني بأشكاله القديمة والمحدثة وتصل الى الفكر الماركسي. والحتمية الدينية لها سماتها المعروفة بمرجعيتها العقائدية. أما الأخيرة فقد انطلقت لدى ماركس من مبدأ الديالكتيك الذي أخذه عن هيغل وعمل على تطويره ودفعه باتجاه تقديم فلسفته المادية انطلاقاً من الاقتصاد والطبقات ودور الصراع الاجتماعي. بهذا المعنى يخرج الدوري من خلال هذا المنحى على الالتزام بالتفسير الأحادي للتاريخ اياً كان مصدره. علماً ان هذا الخروج لا يعني عدم التأثر بالمراحل الفكرية والسياسية العامة التي يعمل المؤرخ عليها او في مناخها. تروح النصوص وتجيء بين ضفاف هذا العلم بدءاً من مقدماته بلوغاً الى المدارس الفلسفية الحديثة في رؤية التاريخ. الذي وان كان يحمل الصفة العلمية مشتركاً مع العلوم الأخرى، الا انه يختلف عنها في استحالة اعادة تركيب الوقائع في المختبر، وبالتالي الوصول الى النتائج نفسها دوماً. اذن يركز الدوري في مباحثه المتعددة على التاريخ والمؤرخين العرب. وهنا تمكن الاشارة الى ان سلسلة الرواد تبدأ من المؤسسين الأوائل وتصل الى الذروة التي بلغها هذا العلم لدى العرب من خلال النظرة الحضارية - الاجتماعية للتاريخ كفعل بشري كما صاغها ابن خلدون من خلال نظرية العمران البشري في مقدمته الشهيرة.
مفاصل حضارية
يمكن التوقف عند كل واحدة من المقالات الأربعة عشر التي تضمنها العمل والتي وان كانت تختلف في موضوعات كل منها الا انها تتقاطع مع بعضها بعضاً في مزيد من القاء الاضواء على مصادر ومناهج المؤرخين العرب في عملهم على المادة التاريخية. بهذا المعنى يتأكد الرابط بين كتابة التاريخ العربي والبحث في هذا التاريخ وفترات محددة منه. ومن المعروف أن بداية المرويات الإسلامية كانت شفاهية تهدف الى استعادة السيرة النبوية. باعتبارها الحدث التأسيسي التاريخي الأول للأمة. وهذه جاء بها ابن اسحاق وصاغها ابن هشام ثم تطور الأمر الى كتب المغازي والصحابة والطبقات وكتب التاريخ والانساب وسواها من الموضوعات الإشكالية التي تتعرّض لها المقالات. والتي ما تزال مجال جدل ومراجعة متكررة. هذا دون ان نغفل الإشارة الى ان المبحث الاول الذي حمل عنواناً هو «ملاحظات توجيهية على تدريس التاريخ العربي». هو موضوع شائك في المدارس ومؤسسات التعليم العالي العربية التي رغم وفرة الأبحاث والدراسات التي تطرّقت الى ضرورة تخلص هذا التدريس من الأساليب التلقينية القديمة وفتحه على آفاق الحداثة في ضوء نظريات هربرت وبياجيه وغيرهما من علماء التربية وفلسفتها. الا ان هذا التدريس في الواقع ما زال يعاني الكثير طالما ان المعلم والاستاذ الجامعي غير مؤهلين تربوياً. اما الطالب العربي اجمالاً فقد درج على حفظ المادة دون أي قدرة على البحث والاستقصاء والربط والتحليل والاستنتاج وغيرها من عمليات عقلية عليا. لكل هذه الأسباب يذوي هذا العلم ويتراجع دوره الأكاديمي.
اذن ما يمكن قوله في هذه العجالة ان الهموم التي ينطلق منها الدوري في هذا المجلد هي هموم شاملة تبدأ في السعي الى تأصيل معرفة علمية باتجاهات ومدارس التاريخ العربي في سياق عملية التطور التي شهدتها منذ بواكيرها وصولاً الى القرن العشرين وما يفرضه من تحديات على المؤرخ. وهي تحديات تبدأ من الأفكار والمنهجيات وتصل الى عملية التحقيب.
ففي مقاربته تاريخ المنطقة العربية يقترح الدوري علينا ثلاث حقبات. تبدأ الاولى من ظهور الاسلام في القرن السادس الميلادي وحتى الحادي عشر منه، أي مع الغزو المغولي وبداية الحروب الصليبية. والثانية من الأخير وحتى القرن الخامس عشر منه أي من مرحلة السيطرة العثمانية بعد معركة مرج دابق وحتى ظهور الهيمنة الغربية باعتبارها لحمة وسدى المرحلة الثالثة مع كل ما رافقها. لكن الدوري لا ينطلق من عملية تحقيبه هذه من التحولات السياسية على اهميتها المفصلية، بل من الجوانب الحضارية الكبرى. اذ ان ظهور الاسلام هو حد فاصل بين فترتي ما قبله وما بعده. فقد كان هذا الظهور هو الحدث الأكبر الذي عرفته المنطقة وطبع تطوراتها. كما ان رسوخ الفتوحات الاسلامية على امتداد الرقعة الجغرافية التي بلغتها وقيام مجتمعات ومراكز عربية واسلامية رافقه تطور اجتماعي وثقافي واقتصادي لا بد من الانطلاق منه في أي رؤية لتاريخ تلك المرحلة. وهو تطور يمكن القول إنه جعل هذه المنطقة المترامية الاطراف المركز الأكثر حداثة للعالم في العصور الوسطى. دون ان يعني ذلك تجاهل الثغرات التي شهدتها المرحلة المذكورة بما هي حال التفكك السياسي وبروز الجماعات المحلية المهيمنة في الاطراف او التسلط على المركز السياسي في العاصمة العباسية بغداد، وسيطرة الاقتصاد العسكري والتغلب على الخلافة و... وكان من البديهي أن تتوّج هذه الفترة بالإعصارين المغولي والصليبي اللذين وسما تاريخ المنطقة منذ مطالع القرن الحادي عشر الميلادي. اما الفترة الثالثة والأخيرة فأبرز ما شهدته من دون منازع كان دخول البلاد العربية في اطار الدولة العثمانية وبدء الانحسار الاسلامي عن اوروبا ونجاح التغلغل الغربي في غزو المنطقة على كل الصعد انطلاقاً من الاقتصاد مروراً بالثقافة وصولاً الى نزول الجيوش والاستعمار.
دراسات تفصيلية
هذا التحقيب الذي يقدّمه الدوري لا يغني بأي حال من الأحوال عن دراسات تفصيلية، خصوصاً ان هذه العملية التي يقترحها رغم السمات الواضحة المحددة لها تظل ملأى بالخطوط الفرعية التي تتعاطى التفاصيل المعرفية الدقيقة لهذا الجانب او ذاك. هذا ومن المعلوم ان المؤرخين العرب نظروا الى حقب التاريخ باعتبارها مجرد حقبتين. حقبة ما قبل الإسلام وما بعده. بينما قسمت المدارس الاوروبية التاريخ عموماً الى مراحل ثلاث قديمة ووسطى وحديثة في ما قسمت التاريخ العربي والاسلامي الى مراحل تبعاً للبناء السياسي: الدعوة النبوية، عصر الخلفاء، الدولة الأموية، الدولة العباسية.. وفي داخل كل منهما ملامح مميزة مثلا في الاولى ( الفترة المكية – الهجرة – دولة المدينة – عام الفتح ووفود القبائل ومبايعــتها.. وهكذا في كل مرحلة).
أوراق في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي والذي يحمل الرقم التاسع في السلسلة يتضمن اربعة عشر فصلاً تجول في مروحة واسعة من القضايا الاقتصادية الشائكة تبدأ من نشوء الأصناف والحرف في الإسلام ونظام الضرائب في خراسان في صدر الإسلام ونظام الإقطاع والضرائب ومسألة الارض وتصل الى الوقف بعد ان تعبر على التنظيمات المالية والضرائبية للخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب و... إشكالية مثل هذه القضايا كونها أسالت الكثير من حبر المؤرخين عرباً وغير عرب. يكفي مثالاً على ذلك القول إن ضرائب خراسان اعتبرها الكثيرون في صلب انهيار النظام الأموي نظراً للمظالم التي شهدتها ودفعت الى المعارضة والتكتل في اطار الدعوة العباسية. كما ان قضية ارض السواد والنظام الضرائبي والمالي في صدر الاسلام كانت ذات دور وازن في انفجار معركتي الجمل وصفين او الحرب الأهلية العربية – الاسلامية الاولى بين كل من معاوية وعلي بن ابي طالب.
الاشارة الى هذه العناوين لا تقلل من أهمية المباحث الأخرى التي يعقدها الدوري وهي مباحث عبرت عن نفسها في أوراق لمؤتمرات وأبحاث تابع فيها الخط البياني الذي عمل عليه في كتابات اكثر عمقاً وتركيزاً. وينطبق هذا على اعماله منذ مرحلة مبكرة أي منذ العام 1945 عندما قدّم كتابه (مقدمة في تاريخ صدر الإسلام) وكانت في حينه بمثابة رؤية مختلفة وجديدة للتاريخ الإسلامي جمع فيها بين رؤيته المركبة للعوامل المتداخلة التي أسهمت في تطور التاريخ الإسلامي كالعوامل إلايمانية والقبلية العصبية والاقتصادية. ومن خلال هذا التوليف البنيوي جمع مجمل العوامل الأساسية المؤثرة في التاريخ دون تحيز لنظرية معينة تضع أحد هذه العوامل في موقع المفــاعل المقرر وتهمل سواها. اذ المعروف عنه انه لم يُعــلِ من شأن الإيمان ليهمل الاقتصاد ولم يهمل العصــبية ليركز على الاقتصاد.
على أي حال، الكثير مما قاله ويقوله الدوري في هذين العملين لا تمكن قراءته منفصلاً عن سواه من أعمال ريادية عبر عنــها على امتداد عطائه العلمي الوافر. يبقى القول إن هدف العرض لم يكن الدخول في نقــاش مع نظريات كبير المؤرخين العــرب، بل إطــلاق ومضــات تذكيرية حول ما جاء في هذين العملين الهامين كمجمل نتاجات الرجل الكبــير. يقيـــناً أن الجدل في التاريخ وعنه يظل حاســماً في رؤية الجذور العظيمة التي عبرت، كونها المعبر الذي لا بد منه نحو صياغة مستقبل ينهل من الماضي، لكنــه لا يقدسه ويصــنمه ويسعى عبثاً ان يستعيده في غير زمانــه والأوان او يكتفي بالبكاء على أطلاله. وهـــذا ما فعله بدأب عظيم ودون كلل كبير المؤرخــين العرب وشيخهم الجليل