«قلعة المطران» في اللقلوق: صخور تروي ما يخبّئه التاريخ

مادونا سمعان
في ظلّ السكون الذي يخيّم على منطقة اللقلوق، ترتاح كومة من الصخور التي تتعانق بشكل دائري.
هي المعالم الجغرافية الأولى التي تلفت نظر المار نحو تنورين شمالا، أولاً بسبب شكلها الدائري، وثانيا لاستخدام حجارة قديمة لوصل أجزائها، حتى صارت تشكّل ما يشبه قلعة صغيرة كونتها الطبيعة ويد الإنسان على حدّ سواء.
تعرف هذه القلعة بـاسم «قلعة المطران»، إذ وصلها ونحت جوفها المطران بولس عقل من بلدة شامات الجبيلية. وقد أدرجتها وزارة السياحة ضمن المعالم السياحية اللبنانية. غير أن أهميتها لا تكمن في بعدها السياحي، بل في بعديها التاريخي والديني اللذين حرّكت فصولهما السياسة.
ففي أربعينيات القرن الماضي، قرّر المطران عقل الوفاء بوعد قطعه على نفسه ببناء كنيسة في منطقة اللقلوق، التي شفي فيها من مرض حين كان صغيرا. بدأ بإشادة كنيسة وسط الصخور وصار يقيم فيها الذبيحة الإلهية والمراسم الدينية المختلفة. وما لبث أن حوّل المكان إلى مقرّ صيفي له، فأحاط الكنيسة بغـرف للنوم ومطبخ وغرفة للطعام وأخرى للاستقبال وحمّام.
حمل معه إلى المكان رصيدا سياسيا وكهنوتيا حال دون توليه كرسي بطريركية انطاكية وسائر المشرق، وذلك منذ أن بدأ كخوري وحتى سيامته مطرانا على جبيل فأمينا لسرّ البطريرك.
وقد انخرط في السياسة، عاملا ميدانيا منذ الحرب العالمية الأولى أو حرب الـ «14» كما خلال فترة إعلان دولة لبنان الكبير والانتداب الفرنسي حتى إعلان الاستقلال، الأمر الـــــذي حوّل قلعته الصيفــية إلى «بطريركية ظلّ» يزورها باستمرار الرئيســان كمــيل شــمعون وفؤاد شهاب والعميد ريمون إدّه ابن رفيق دربه الرئيس إميل إده، بالاضــافة الى الرئيــسين رشيد كرامي وصائب سلام، وصديقيه الحميمين أسد الأشــقر القومي السوري، وفرج الله الحــلو الشيوعي، كما عدد كبــير من المطــارنة والرهبان...
وجاءت الزيارات السياسية للمطران نتيجة طبيعية لباعه الطويل في السياسة، ولجرأته على الاعتراض على تدخّل روما في تعيين بطريرك بدلا من انتخابه على كرسي البطريركية المارونية اللبنانية التي كانت تتمتع بالاستقلالية وتعتبر نفسها من الكنائس الشرقية.
وحين وصلت خلافات الرئاسة الأولى والبطريركية إلى حائط مسدود، وجد بعض السياسيين، لا سيما الرئيسين شمعون وشهاب، في المطران بديلا. وقد ألحق به البطريرك بولس المعوشي الحرم الكنسي مانعا إياه من ممارسة مهامه الكهنوتية، وذلك بحسب كتاب الخوري منصور عوّاد «إلى النائب السيّد المسيح لا إلى القيصر أنا رافع دعواي» الذي طبع في القاهرة العام 1958 بعد منع طباعته في لبنان.
مادونا سمعان

يروي الدكتور عقل ووديع عقل، وهما قريبا المطران، بالاستناد إلى مذكراته، أنه حين كان رضيعا في سريره رماه الأمير بشير الثالث المعروف بـ «أبو طحين» في الحقل المجاور لأن والــده الإكــليريكي أيضا، رفض جلوس الأمير إلى المذبح أثناء الصلاة على أساس أنه «أمام الــله الجميع متساوون».
بعدما رماه الأمير انتشلته الأميرة من الحقل وقالت لزوجها: كيف ترمي طفلا سيصبح رجلا ذا أهمية...
خسر الأمير ماله في ما بعد. وعلم بولس عقل، وكان حيــنها لا يزال خوريا، ان زوجته تقطن الشــويفات وحيــدة من دون معــيل، فعــزم على زيارتها شهريا وإعالتها. ولم يكشف لها عن هويته إلا وهــي على فراش الموت.
ودوّن عقل في مذكراته أنه بموافقة البطريرك إلياس الحويك ولمساعدة الشعب أثناء مجاعة حرب الـ «14» وموجة الجراد، كان يسافر عبر قوارب إلى جزيرة أرواد حيث كان يلتقي بالجيش الفرنسي طالبا منه المساعدات للبنانيين. وكان الجيش بدوره ينقل طلب الخوري عقل باسم بالبطريركية المارونية إلى السلطات الفرنسية.
وإذ عاد عقل بمساعدات عينية ومادية إلى سوريا الكبرى حينذاك، لفت نظره أحدهم بأن توزيع العملة الفرنسية على الشعب من شأنها أن تكشف خطته. فكان يحوّلها إلى عملة عثمانية ويوزّعها على الشعب مدّعيا أنها من أقارب لهم في الخارج.
انفضح أمر الخوري، حين لاحظت السلطات العثمانية أن الناس بدأت تيسير أمورها. فهرب إلى دير القطارة في ميفوق مع حبيب باشا السعد الذي كان رئيس مجلس إدارة وشقيقه راجي السعد. هناك تنكروا في زيّ الرهبان وهي رتبة إكليريكية تختلف عن رتبة الخوري. وكان الرهبان يعملون في الأرض المجاورة لأديارهم، فكانت أيديهم خشنة ومكتنزة تملؤها الشقوق. بعد أيام من تنكرّهم واختبائهم في الدير لاحظت إحدى العاملات، أن أيدي ثلاثة من الرهبان ناعمة واستخلصت أنهم رجال متنكرون... فهرب الثلاثة إلى كسروان، بعدما أشاعت الخبر في المنطقة.
مع علم السلطات العثمانية، وجّه جمال باشا رسالة يطلب فيها حضور الحويك إلى مقرّه في صوفر. بعث الأخير رسالة إلى روما يعلمها بالأمر وذلك بعد انقضاء ثمانية عشر يوما على استدعائه. سمع عقل أن البطريرك سيخضع للفرمان العثماني فوافاه إلى الديمان، مقرّه الصيفي وطلب مرافقته إلى صوفر لأنه اعتبر أنه سبب الاستدعاء.
استقبل جمال باشا الحويك وأعلمه بنيــة السلطنة محــاكمة «الخوري المقاوم للعثمانيين». فخرج عقل من بــين الوفــد وسلّم نفــسه للباشا قائلا «لو كنت مذنبا لما أتــيت إلى هنا». ففض العثــماني الاجتماع وأعفى عنه إذ أحرجه وجود البطــريرك وتدّخل روما.
حينها كانت البطريركية المارونية مستقلّة عن روما وهو ما حاول البطريرك الحويك ومن بعده البطريرك أنطوان عريضة المحافظة عليه.
بعد انتخاب الأخير بطريركا سيم عقل مطرانا علــى منطقة جبيل. غير أن ذلك لم يحــل دون انغماسه أكثر فأكثر في السياسة، فأسس حزب الكتلة الوطنية مع صديقه إميل إده وقبلها عمل لوصول حبيــب باشا السعد إلى رئاسة الجمهورية، وكان من بين الذين سعوا إلى انشاء دولة لبنان الكبير عام 1920.
غير أنه في العام 1943 كان من بين المتمنين تأجيل استقلال لبنان وذلك لسببين وفق ما سجّله في مذكراته: الأول هو استكمال بناء دولة لبنان ومرافقها الاقتصادية وبناها التحتية، إذ رأى أنه من الصعب على دولة حديثة النشوء استكمال ما بدأه الانتداب في هذا المجال. أما السبب الثاني، الذي وجده جوهريا، فضرورة مقاومة إعلان دولة إسرائيلية في فلسطين، ما جعله يعتبر أن بقاء الفرنسيين في لبنان يعني البقاء على حدود قوية، أو بمعنى آخر وضع جيش قوي في وجه الإسرائيليين بدلا من أن يكون بمثابة جيش يافع لدولة يافعة في وجه العدوّ. وقد قال جملته الشهيرة في 22 تشرين الثاني 1943: «هذا استغلال وليس استقلالا، به تنتهي حرب المدافع وبه تبتدي حرب المنافع».
وقال عن بشارة الخوري «أن يدعــي من حكــم انــه بنــى لبنــان فهــو وأعــوانه الأكثر خبرة بهدمه».
بعد الاستقلال، يروي عقل في مذكراته وعواد في كتابه أن الفاتيكان بدأ بالتضييق على البطريركية بشخص البطريرك عريضة فشكّلت ما بات يعرف بأمانة سرّ المجمع الشرقي المقدّس برئاسة كاردينال. وباتت تعيّن المطارنة الذين كانوا ينتخبون، وذلك بعد أن كان للبطريركية كيان مستقلّ يحكمها المجمع الماروني.
مع وفاة عريضة، التأم مجلس المطارنة لانتخاب بطريرك جديد، وهنا طوي التاريخ على روايتين، ينفيهما مطران جبيل بشارة الراعي جملة وتفصيلا، على الرغم من ورودهما في كتاب عوّاد ومذكرات عقل.
الرواية الأولى، التي يتبناها أهل المنطقة، تقول انه تمّ انتخاب المطران بولس عقل بطريركا على أنطاكيا وسائر المشرق. أما الرواية الثانية فتشير إلى انه فور التئام مجلس المطارنة أتاهم المطران سيلفو أودي، القاصد الرسولي في القدس، موفدا من قبل البابا بيوس الثاني عشر، وتلا عليهم براءة أعلن فيها تعيين مطران صور بولس المعوشي بطريركا للطائفة المارونية. فكانت المرة الأولى والأخيرة التي يتم فيها تعيين بطريرك بدلا من انتخابه.
تمّ تدوين مجيء الموفد وتعيين المعوشي في سجلات البطريركية المارونية، الا أن أي نية أو انتخاب فعلي لعقل غير مدوّن. وهي حقيقة يتمّ طمسها بالنسبة لأنسباء عقل ومن عرفه. وهو ما يبرهن، من جهة أخرى، عدم السماح بطباعة كتاب عوّاد الذي يروي فصولا من تاريخ البطريركية في تلك الحقبة.
بعد التعيين لم يرض عقل بشق الكنيسة في لبنان وفق ما يرويه الأخوان عقل، لكنّه شكل حالة استثنائية فأضحى «بطريرك الظل» لا سيما مع الخلافات التي نشبت بين البطريرك المعوشي والرئيسين شمعون وشهاب. وقد رفع دعوى أمام الحبر الأعظم في روما يشتكي فيها من تدخل الفاتيكان في شؤون الكنيسة المارونية اللبــنانية وعدم احترامها لاستقلاليتها. وقد نقل عنه الخوري عواد قــوله «إني قدّمت شــكوى على البطريرك المعوشي لقداسة البابا وطالبت المحاكــمة القضائية المحفــوظة قانــونا لقداسة البابا وذلك للدفاع عن المجمع اللــبناني». وقد كتب عقل أن البعض حوّل الخلاف الى خلاف شخصي مع البطريرك الا أنه كان يدافع عن استقلالية الكنيسة.
عام 1959 توفي المطران بولس عقل وقد قلّدته الدولتان الفرنسية والسويسرية والمملكة الأردنية الهاشمية أوسمة. وفيما حضر دفنه بطاركة الكنائس الكاثوليكية والارثوذكسية، رفض أهله حضور البطريرك الماروني أو أي ممثل عنه... أما الدعوى الذي قدّمها «فربحها وهو في دنيا الحق». بعدها تحوّلت القلعة إلى ثكنة عسكرية للقوات اللبنانية ومن بعدها للجيش اللبناني وقد تركوا على جدران من باطون بنوها في داخلها أسماء جنودهم وبعض الشعارات...
هذا مــا يقــرأه أهــل المطــران وأهل المنطــقة على صخور قلعة اللقلوق، ولروايتــهم خيــوط مؤرخة في سجــلات الكنيــسة المارونية. أما «الحقيقــة» فمــن القاهــرة أطلــّت ذات يــوم فــي كتــاب مــا زال ممنــوعا. وها قــد مرّت خمسـون سـنة عليـها.