أن تكون متطوعاً فرنسياً في ساحل العاج أو أميركياً في غزة أو مسيحياً في أفغانستان أو باكستان أو مجرد متطوع في الحقل الإنساني في أي منطقة ساخنة من العالم «فليس بالأمر الحيادي» كما يقول الرئيس الفخري لمنظمة «أطباء العالم» الفرنسية الدكتور بيار ميكيليتي، تلك المنظمة التي تنفذ برامج مساعدة طبية موجهة الى من يعانون من أوضاع صعبة وهشة، بالتعاون مع شركاء محليين من منظمات أهلية وسلطات رسمية في دول بعضها في المنطقة العربية، كلبنان وقطاع غزة وجنوب السودان والعراق ومصر والمغرب.
يعلم العاملون في الحقل التطوعي الإنساني تماماً أنه للتمكّن من الوصول الى الضحايا من المهم جداً عدم الإنحياز لأي طرف كان في الصراعات التي تمزّق بعض الدول، وعدم الارتباط بسياسات الدولة الأم التي تنتمي اليها المنظمات الإنسانية. وفي المقابل، تجعل بعض التطورات التي تحصل في هذه الامكنة من النظرة الى موقع المنظمات غير الحكومية أكثر تعقيداً، ما يدفع بمنظمات عدة وتحت الضغط، الى تقليص عدد عامليها في مواقع ساخنة وحتى الى الاستعانة بأطراف النزاع لإطلاق متطوعين مخطوفين على سبيل المثال، ما يوقع هذه المنظمات في فخ منطق الدول من جهة ومنطق التدخلات العسكرية لبلادهم الأم ومنطق ضرورة الوصول الى ضحايا النزاعات.
في مقاربته لهذا الوضع، يعود ميكيليتي بالذاكرة الى نهاية السبعينات من القرن الماضي، حين نشأ جيل من الجمعيات الإنسانية وصفت نفسها باعتبارها «بلا حدود». وتشكّل قاسمها المشترك من طابعها غير الديني وغير السياسي، ومن رغبتها في الوصول الى الضحايا في أي مكان، إضافة الى سعيها الى الاستقلال عن الدول ومن ضمنها الدول الممولة.
وكذلك رغبت تلك المنظمات في تقديم شهادات على أوضاع يُجرى التحقّق منها على الارض للكشف عن واقع صحي أو عن آليات تولّد أوضاعاً تكون مأسوية أحياناً. على أن الانقسام الذي تولّد في شكل أكثر حدّة بين الغرب والعالم العربي، عقب تحريك نزاعات ثقافية اثنية ودينية أو استغلالها لنزاعات أخرى، واضيفت اليها عولمة المعلومات، شكل عامل ضغط إضافياً على قدرة هذه المنظمات الإنسانية على الابتعاد عن خطوط الشرخ الدولية الكبرى والهروب من استغلالها بمختلف الوسائل.
ففي العراق وأفغانستان وباكستان وجنوب السودان، تبدو هذه المسائل حسّاسة جداً. فلأسباب مختلفة، تحولت تلك البلدان الى اراض يتجلى فيها النزاع بين الغرب والعالم العربي والمسلم. ويصف ميكيليتي هذه الأماكن بأنها «رمز لما يعتبره البعض تصادماً بين الغرب الغازي (الصليبيون) وبين «الجهادية» التي شنت بدورها حرباً في جميع الاتجاهات ضد «الكفار». وفي دارفور مثلاً، فإن منظمات دولية غير حكومية ومنها منظمة «أطباء العالم» تلحظ تراجعاً مستمراً في قدرتها على الوصول الى الضحايا خارج مخيمات اللاجئين، وارتفاع اعمال العنف التي تطاول السكان وكذلك العاملين في الحقل الإنساني. ويشرح ميكيليني: «في هذه الظروف تؤيد بعض حركات الرأي العام، على غرار جمعية «إنقاذ درافور» اجراءات مختلفة منها انتشار جنود الأمم المتحدة محل الفرق التابعة للاتحاد الافريقي المنتشرة فعلياً ولكنها لا تملك الوسائل والصلاحيات الكافية كما هو معروف لتوفير حماية فعّالة للسكان... وتصطدم هذه المواقف بتحفظات قوية من قبل المنظمات غير الحكومية الموجودة على الارض أيضاً. وليس من مهمات هذه المنظمات اختيار الاطراف المشاركة في الانتشار العسكري، اذ لم يجر نشر الفرق العسكرية بطلب منها، ولذا، فإن المحافظة على وجودها على الارض ستعزز رمزية «التواطؤ» بين مبادارات التدخل الطبي والإجراءات الحربية. لكن إن لم يجر توكيل فرق تابعة للأمم المتحدة، فقد يؤدي ذلك الى ترجمة الأمر أو استخدامه من قبل السلطات السودانية كعمل عدائي هدفه تبرير تدخل قوات غير افريقية، وإلى طرد المنظمات غير الحكومية كلها، تاركة شعب دارفور من دون عناية ولا شهود».
إن تشويش صورة المنظمات الإنسانية غير الحكومية في الدول التي تشهد صراعات، يتجلى في اتهام العاملين فيها بأنهم جنود يرفدون القوات الاجنبية الموجودة على الارض، بل أنهم ينشرون عقائدها ويحققون مصالحها.
ويخشى ميكيليتي من «أن يزعزع هذا التشويش على المدى البعيد منطق الـ «بلا حدودية» بأكمله... وسيتم بفعل ذلك الحدّ بقوة من الرقعة الجغرافية للانتشار المحتمل للمنظمات غير الحكومية وتحديداً الأوروبية، بفعل الرقابة الذاتية التي تفرضها على نفسها تفادياً لتعريض المتطوعين الدوليين فيها والفرق المحلية للخطر».
الاستقلالية المالية
يبدو أن استعادة القدرة على التحرك تمر عبر المزيد من الاستقلالية المالية، من خلال تفضيل الاموال الخاصة على التمويل المؤسساتي، سواء جاء من حكومة بعينها أو من مجموعة من الحكومات المشتركة في فضّ النزاع، والتي لا تتمتع بالحياد السياسي في نظر المجموعات المسلحة الموجودة في مناطق النزاع خصوصاً عندما تكون صادرة عن دول تعدّ طرفاً في النزاع».
ويخلص الى القول بضرورة تصحيح الصورة المشوهة والهشّة القائمة بين هذه المنظمات وبين وسائل الإعلام العربية وتظهير الصورة الحقيقية للرأي العام.
ويعتقد رئيس منظمة «أطباء العالم» الدكتور أوليفييه برنار: «أن الاعلام العربي يشكّك في المصالح التي تدافع عنها المنظمات غير الحكومية، علماً أن هذه الاخيرة ما برحت تذكّر بأن أجندتها مستقلة تماماً عن الاجندات السياسية والعسكرية التي تطبقها الدول التي تنتمي اليها تلك المنظمات. ويُسيء هذا الالتباس إلى صورة المنظمات وصورة الناشطين الدوليين، لدى جمهور الاعلام العربي».
واذا كانت ورشة العمل التي عقدتها المنظمة في بيروت أخيراً لبحث سبل التواصل الافضل بينها وبين الاعلام العربي وجاءت ضمن سلسلة ندوات متنقلة لهذه الغاية، هدفت الى البحث في «أسباب النقص الحاصل في تغطية نشاطات إنسانية مهمة وضرورية وتأمين الظروف الملائمة لتعزيز الروابط بين المنظمات الإنسانية الدولية والمجتمعات المحلية وتحسين تغطية نشاطاتها»، بحسب إعلان رسمي، فإن المنظمة حرصت على تأكيد التباين بين سياستها وسياسات الدول التي تنتمي اليها، بل «معارضتها» أيضاً لسياسات هذه الدول كما قال برنار، الذي يعتقد أنه لم يعد هناك: «احتكار غربي للطاقة والموارد، وحتى المعلومات اصبحت معولمة، وحادثة الصور الكاريكاتورية في الدنمارك أفضل مثال على دور الاعلام وعولمة المعلومات وسرعة ردود الفعل عليها، ولا بد من علاقة واضحة مع الاعلام لكسر الصورة - التهمة التي تلصق بالمنظمات الدولية بأنها تمثل حكومات بلدانها، فنحن لا ننطق باسم وزارة الخارجية الفرنسية ولا نجسد سياساتها الخارجية».
يقرّ القيمون على منظمة «أطباء العالم» أن فاعلية الحركات الإنسانية لنجدة الضحايا وفي فرض نفسها كحل بديل للمنطق السياسي والاقتصادي للدول رهن بقدرتها على تخطي الصعوبات، ويبقى الثمن الذي تستعد هذه المنظمات لدفعه وصولا الى تضامن دولي حقيقي مع الشعوب المظلومة.