ورشة عمل تطبيقية للأونيسكو في عمان للمحافظة على التراث غير المادي خطط لربط الخبرات التراثية بالتنمية المستدامة

بين 11 و13 تموز الجاري، اقيمت في عمان، فندق "المريديان"، ورشة عمل عن تطبيق الاتفاق الدولي المتعلق بالمحافظة على التراث الثقافي غير المادي، الذي وضعته السنة 2003 منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (الأونيسكو) وحدّدت بنوده وأحكامه وبرامج عمله وهيئاته ونظامه الداخلي. وهو إتفاق مفتوح لمشاركة كل دول العالم، من دون استثناء، وانضم اليه لبنان منذ إعلانه.

ما هو التراث اللامادي؟
يعتبر الاتفاق جديداً في مجاله ولا تزال برامجه التنفيذية في بداياتها، وخصوصاً في بلدان المشرق العربي، فيما خطت دول المغرب خطوات حثيثة في الانضمام اليه والمساهمة في تنفيذه. ووفق بنود الاتفاق، يشمل التراث الثقافي غير المادي الممارسات والتصورات واشكال التعبير والمعارف والمهارات والخبرات التي تعتبرها الجماعات والمجموعات البشرية، واحياناً الأفراد، جزءا من تراثها الثقافي المتوارث جيلاً عن جيل، فتقوم بتجديده وابداعه على نحو مستمر يتلاءم مع بيئتها الطبيعية وتاريخها.
فاذا كان التراث المادي، "هو ما تنتجه اليد العاملة المبدعة" من صناعات وفنون مختلفة (كالصناعات التقليدية والعمارة والبناء والزراعة والري والانسجة والتطبيب والمأكولات والطبخ والصيد والزينة... الخ) فان التراث غير المادي، وفق تعريف احد خبراء الأونيسكو، التونسي عبد الرحمن ايوب، يشمل العمليات والخبرات الذهنية المتوارثة والمتجددة التي تؤدي الى انتاج هذه الصناعات والفنون، والتي يختزنها التراث الشعبي. وبما ان منظمة الأونيسكو اعتمدت برامج وقوانين سابقة لحفظ التراث المادي للبشرية (الآثار والعمارة التقليدية القديمة والصناعات الحرفية... الخ)، فقد اكتشفت، اخيراً، أن هنالك تراثاً آخر ظل طي الكتمان ومهددا بالاندثار. الا وهو التراث الذي تختزنه ذاكرة البشر، ويعتبر البنيان التحتي الاساسي للصناعات والحرف والفنون التراثية. فبدون هذا البنيان من التصورات والخبرات والعادات والتقاليد المتناقلة، يستحيل انتاج اي سلعة وفن تراثيين. لذا ابتكرت الأونيسكو اتفاقاً جديداً (2003) لصون هذا البنيان التحتي الذي أطلقت عليه تسمية التراث الثقافي غير المادي او اللامادي، فحددته ووضعت الخطط والبرامج والاطر القانونية والادارية والتنفيذية للشروع في حفظه وصونه وتجديده.
الذاكرة واللغة هما خزان هذا التراث اللامادي الذي كانت علوم الانسان، من تاريخ واجتماعات وإناسة (انثروبولوجيا) وأركيولوجيا وألسنية، قد جعلته مادة لبحوثها ودراساتها النظرية والميدانية، لكن من دون ان تترتب على هذه البحوث والدراسات الغزيرة برامج عملية لحفظ خزائن هذا التراث وصونه وتجديده وإبقائه حياً وقابلا للاستمرار والإفادة منه، ثقافياً ومادياً.
بناء على هذا، جاء اتفاق الأونيسكو الجديد، فحدد مجالات التراث الثقافي غير المباشر المشمول في برامجها على النحو الآتي:
- التقاليد واشكال التعبير الشفهي، بما في ذلك اللغة كواسطة للتعبير عن هذا التراث.
- فنون الأداء والعرض.
- الممارسات الاجتماعية والطقوس والاحتفالات.
- المعارف والممارسات والخبرات المتعلقة بالطبيعة والكون.
- المهارات والخبرات المرتبطة بالفنون الحرفية التقليدية.
هدف البرامج التي تشمل هذه المجالات، هو صون هذا التراث وضمان استدامته، وتوثيقه واجراء البحوث في كل مجالاته، وتعزيزه وابرازه، وربطه بالتنمية المستدامة وبرامجها. وقد حدد الاتفاق الوسائل والسبل الآيلة الى ذلك.
المشاركون في الورشة
ورشة العمل التي عقدت في عمان ودعت اليها ورعتها مكاتب الأونيسكو في كل من بيروت وعمان وبغداد وأربيل (عاصمة الحكم الذاتي الكردستاني في العراق)، كان هدفها تبادل الخبرات والمعلومات والتجارب في ما يتعلق بمجالات التراث الثقافي غير المادي، وسبل تطبيق اتفاق الأونيسكو في شأنها. وشارك في الورشة مديرو مؤسسات ثقافية رسمية، وباحثون واصحاب خبرات من هذه البلدان، اضافة الى خبيرين منتدبين من الأونيسكو، هما التونسي عبد الرحمن ايوب والمغربي احمد سكونتي، العاملان في بلديهما في معاهد ومؤسسات جامعية وحكومية تعنى بالتراث الثقافي غير المادي وشؤونه.
اضافة الى بعض مديري مكاتب الأونيسكو المعنيين بادارة برامج الاتفاق في بيروت وعمان وبغداد واربيل، كان المشاركون من العراق من المهتمين بفنون الموسيقى التقليدية في معظمهم، فيما كان المشاركون من اربيل من المهتمين بالتراث الكردي، على وجه العموم، فذكر احدهم ان واحداً من البرامج المرعية الاجراء في الاقليم، هو تسجيل سير بعض مقاتلي الميليشيا الكردية المعروفة بـ"البشمركا"، بوصفها وجهاً من وجوه التراث الثقافي اللامادي في الاقليم الكردستاني العراقي.
من لبنان شارك المدير العام لوزارة الثقافة عمر حلبلب، ورئيس مصلحة الشؤون الثقافية في الوزارة حنا العميل، ونداء ابو مراد استاذ الموسيقى في الجامعة الانطونية، وآني طعمة تابت مدرّسة العلوم الاجتماعية في جامعة القديس يوسف، وكارين قزي رئيسة قسم العلوم الاجتماعية في جامعة الروح القدس، اضافة الى كاتب هذه السطور من "النهار".
أبرز المشاركين الاردنيين في الورشة كان الدكتور هاني العمد المتخصص في التراث الشعبي، الى جانب الدكتور رياض ياسين عضو اللجنة الوطنية الاردنية في الأونيسكو. اما الباحثان المغربي والتونسي، فكان دورهما في الورشة اساسياً بصفتهما خبيرين منتدبين في الشؤون الفنية والإدارية والقانونية الخاصة ببرامج الاتفاق الدولي المتعلق بالمحافظة على التراث الثقافي غير المادي.

تنمية الخبرات التراثية
انصبت اعمال الورشة ومناقشاتها على ملاءمة ظواهر التراث الثقافي غير المادي في البلدان المشاركة مع مضمون اتفاق الأونيسكو، وعلى ايجاد السبل والوسائل الكفيلة باكتشاف ظواهر هذا التراث وتحديدها واستقصائها واجراء مسح ميداني شامل لكل منها، وبإعداد بيانات وبرامج وخطط عمل لإجراء دراسات عنها لتقديمها للأونيسكو للاطلاع عليها والمساعدة على وضعها موضع التنفيذ، في اطار الاتفاق الدولي. وقد تكون هذه العملية شبيهة بتلك التي تجري في اطار وضع المعالم الاثرية والتراثية والطبيعية على لائحة الجرد العالمية او الدولية، بغية حفظها وصونها وتجديدها.
فالعادات والتقاليد والحكايات وفنون القول والاداء الشعبية، اضافة الى المهارات والخبرات الحرفية التقليدية في مختلف الصناعات والأغذية، هي مجال اتفاق التراث الثقافي اللامادي وبرامجه، بغية صونها وحفظها واحيائها جيلا بعد جيل، عبر ربطها ببرامج التنمية المستدامة واذا كانت هذه البرامج تدعو الى استطلاع ظواهر التراث اللامادي، ومسحها واحصائها وتسجيلها مشافهة وكتابة بالتدوين والصور، كي تحفظ وتصير في متناول المؤسسات الثقافية والباحثين بوصفها وثائق ومحفوظات مبوبة ومنظمة، وجاهزة للاستعمال كمصادر للمعلومات عن التراث الانساني، فان هنالك غاية اخرى واساسية لهذه البرامج الاستطلاعية والاحصائية والتوثيقية. والغاية الاخرى هي ايجاد الوسائل التي تمكّن الجماعات والمجموعات والافراد من العمل على استخدام هذا التراث الموثّق بأساليب علمية حديثة، لصون ما يمكن صونه وتجديده من التراث نفسه، وخصوصاً اذا كان يتعلق بخبرات حرفية تقليدية متوارثة يمكن ادخالها في التنمية الاقتصادية والبشرية المستدامة التي تمكّن البشر من انتاج سلع وفنون تراثية مجزية وبوسائل محدثة.
في السبعينات من القرن الماضي كان الراحلان سلام الراسي وانيس فريحة قد صرفا عمريهما في تدوين الكثير من مخزون التراث الثقافي الشعبي اللامادي، فوسم الاول احد كتبه في الأمثال الشعبية بـ"لئلا تضيع"، وسمى الثاني كتابه الوثائقي عن الحياة القروية اللبنانية "حضارة في طريق الزوال"، قبل ان يروي لابنه وجوهاً من هذه الحضارة في كتاب آخر سماه "اسمع يا رضا". مثل هذه الكتب وغيرها الكثير، يمكن ان تشكل اليوم المصادر الأولية في مكتبة التراث اللبناني غير المادي الذي يسعى اتفاق الأونيسكو الى حفظه وصونه وتجديده وتطويره بالتعاون مع الهيئات المحلية الرسمية والمنظمات غير الحكومية.

عمان – من محمد أبي سمرا