نهاد المشنوق: الملتزم المستقل... في قبوه درر المشرق

رشا الاطرش

لما بلغ حديث نائب كتلة «المستقبل»، نهاد المشنوق، مبلغ «المنفى الرابع» (1998 ـ 2003)، كان قد بدا عليه التعب، فآثر استكمال الكلام في جلسة ثانية. كانت «تجربة قاسية»، حسب وصفه، تنقل خلالها بين باريس والقاهرة على مدى سنوات خمس، من دون عائلته، لأن «رأياً في الشام وبيروت اعتبر وجودي إلى جانب الرئيس رفيق الحريري حائلاً دون التعاون مع رئيس الجمهورية المنتخب إميل لحود. أرادوا تجريد الحريري من بعض أسلحته الإعلامية والسياسية، وفعلوا».
هذه ذروة قصة لم تنته.
بدايات الرجل ـ الذي يمازحه أصدقاؤه بأنه ليس صحافياً ولا نائباً بقدر ما هو «مؤسسة كاملة» ـ تعود إلى التتلمذ على يدي الصحافي سليم اللوزي، وتمر بمرافقة أبو إياد (فتح) وتقي الدين الصلح، قبل رفيق الحريري. أما المقعد النيابي فهو حاضر مفتوح على تجربة جديدة، لم يتضح شكلها النهائي بعد، بالنسبة إليه، كما بالنسبة إلى رئيس كتلته المكلف اليوم برئاسة الحكومة. فالمشنوق «ليس نائباً مستقلاً»، بمعنى أنه «ملتزم بقرارات الكتلة»، لكنه «محتفظ بهامش من النقاش والحرية السياسية في إطلاق المواقف». هكذا يصف علاقته بالحريري الأب: اشتغل معه، والسياسة كانت من ضمن الشغل. أما الحريري الابن فتربطه به علاقة شخصية أفضت إلى الانتخابات، «فبعد الاعتصام في وسط بيروت، وجدت نفسي في موقع المدافع عن فكرة الدولة، وطبيعة المدينة وعروبتها».

الأربعاء 15-7-2009
على مر المراحل، راح المشنوق يراكم خبرات وصداقات متنوعة حد التناقض أحياناً، تماماً كاللوحات (ومن بعدها المخطوطات القديمة والسجاد والتماثيل) التي يجمعها بتؤدة الخبير تارة، وعجلة الشغوف طوراً. وأكثر الصداقات التي يقدّرها هي تلك التي تبلورت خلال سنوات المنفى الأخير والأصعب.
استعاد نهاد المشنوق إذاً، منتصف العام 2005، صفة الكاتب الصحافي والمحلل السياسي، وتوقف مرتين: الأولى دامت ستة أشهر، كي لا تفسر مقالاته في سياق الرد على حؤول الرئيس فؤاد السنيورة دون توزيره في حكومته الأخيرة، والثانية عشية المعركة الانتخابية التي خرج منها نائباً. «في الأساس» طربوش المقالات التي عاد إلى كتابتها، في «السفير».. «وعشت أربع سنوات هي الأكثر حرية في حياتي. شعرت أني أرد على اغتيال الرئيس الحريري بإبداء الرأي في المساحة التي وفرتها لي هذه الجريدة، ولم تكن لتتوفر في أي صحيفة لبنانية أخرى».
هي المهنة التي أحبها منذ أوائل السبعينيات، أيام كان مصححاً لغوياً في «بيروت المساء» التي يملكها عمّه عبد الله المشنوق. يذهب الفتى إلى ثانوية المقاصد نهاراً، وإلى عمله في باب إدريس مساء، حتى انتصاف الليل. وإذ يرجع بالسرفيس إلى البيت، يمر بمنطقة الكابيتول، ويرى الأضواء والحياة التي لا تنطفئ، فيشعر أن الكثير من متع الحياة يفوته. لكنه بعد سنوات سيعوض الكثير، ولو أنه لم ينه دراسة العلوم السياسية في الجامعة الأميركية لأسباب خاصة.
شاب في أوائل عقده الثاني، يصفه الرجل الذي أصبحه بأنه كان «ولداً ويقبض على الدنيا في كفّه». أرسله سليم اللوزي إلى مقابلة كبار المسؤولين العرب لصالح مجلة «الحوادث» (وما زال حتى اليوم، بعلاقاته المشبّكة، يطلب موعداً فيُلبّى). فقد وجد نهاد لحماسته للقومية العربية والعمل الفلسطيني، مذاك، قالباً مهنياً، فتخصص في «المسألة الفلسطينية الإسرائيلية»، ودأب على زيارة شبه يومية إلى مركز الدراسات الفلسطينية، يزور مديره العراقي وليد خدوري، ويقرأ كل ما تقع عليه يداه.
عرّفته الصدفة في دمشق إلى سعيد فريحة، الذي جاء به إلى «الأنوار» و«الصياد»، فعاد إلى «فندق أمية» حيث مكث شهرين، غطّى خلالهما حرب تشرين، «وهناك، اشتغلت وعشت، وحبّيت وانحبّيت...».
ترتسم على وجه المشنوق، عند العبارة هذه، ابتسامة من النوع الذي لا يأتي إلا من مخزون الذكريات الثمينة. فيحفّز سؤالاً عن أرشيف نصوصه (المنشورة على موقعه الإلكتروني)، وتحديداً تلك التي تتناول النساء في حياته (حبيبات قديمات، أو والدة، أو ابنة). في مثل هذه النصوص ترقّ كتابته، ويمسي انتقاء الأسماء المستعارة فناً لذاته.. «نعم، أحبهن. فكل امرأة يعرفها المرء بحق، هي بوابة عالم جديد».
حتى لحظة اختطافه على حاجز سوري في منطقة الأوزاعي، لمدة ثلاثة أيام، يربطها في ذاكرته بموعد على الغداء مع «المرجة الخضراء»، تلك الارستقراطية رائعة الجمال، التي كانت تكبره سنّاً، ولم تنل الحرب اللبنانية من كرم أنوثتها: 13 حزيران 1976. كانت «الصاعقة» قد أخرجت من بيروت»، وهو انتقل إلى العمل في «الدستور» حيث كتب موضوع الغلاف، تحت عنوان «خسروا بالنقاط»، مع صورة لدبابة سورية محترقة في صيدا. «كان العصب الفلسطيني قد بدأ يشتد، وانا على علاقة وثيقة بأبو إياد وأبو عمار. في ذلك السن، قد يختلط الأمر على الصحافي، فيشعر أنه مشارك في صناعة الأحداث، فيما أدرك الآن أن الصحافي يكتب وحسب.. حتى أن بعض الولدنة السياسية، في تلك الفترة، دفعني إلى التصرف كجزء من عملية انتخاب الرئيس الياس سركيس، بحكم أني شهدت على انقسام الفلسطينيين بينه وبين ريمون إدة».
وقتذاك كان نهاد يقطن في الفنادق، لا لشيء إلا لأنه يرتاح فيها، ويتحرر من قيود البيت، أي بيت. من «النابليون» في الحمراء، إلى «سان جورج» و«هوليداي إن» اللذين لحقهما جديدين قبل أن تنسفهما الحرب. وحتى اليوم، ما زال يشعر، في الفنادق الأنيقة، أنه مدلل كما يستحق.
من العام 1979 وحتى 1984 انضم إلى أسرة تحرير «النهار العربي والدولي»، حيث كتب «كلاماً قاسياً عن اعتداء فلسطيني على الجيش اللبناني». ثم التقى أصغر مدير مخابرات في الجيش اللبناني. اسمه جوني عبدو، «وبسرعة رهيبة سرت الكيمياء بيننا». بينما لم يشهد لقاؤه بالرئيس بشير الجميل، الذي تعرّف عليه عبر جبران تويني، الشرقطة ذاتها. كان المشنوق قد تولى عملية التفاوض بين أبو عمار والجيش اللبناني، بمشاركة هاني الحسن، لإتمام عملية الخروج الفلسطيني من لبنان.. «وفي ذلك الحين، لم يكن سهلاً عليّ أن أرى الجميّل بعين إيجابية، أو على الأقل بعيون زملائي في النهار».
في العام 1980 تعرف إلى الرئيس تقي الدين الصلح، إثر تكليفه بتشكيل الحكومة ثم اعتذاره. صار يتردد عليه كل يوم تقريباً، وسمى نفسه من مريدي «ذلك الرجل كثير الحكمة والمعلومات وولاّد الأفكار». ولما تبلورت فكرة «اللقاء الإسلامي»، برئاسة المفتي حسن خالد، كان المشنوق فيه عضواً غير معلن. يرافق «تقي بك» إلى بيت ابن أخته، حيث يجتمع بالأعضاء الجديين قبل الاجتماعات العامة، أو يرسله البك إلى أحدهم ليناقشه في أمر ما.
اغتيل المفتي خالد في العام 1989، ومن بعده ناظم القادري، وقبلهما هُدّد تقي الدين الصلح بالقتل فسافر إلى باريس حيث توفي بعد بضعة أشهر، لكن ليس قبل أن يكون صلة وصل بين نهاد المشنوق، المقيم حينها في قبرص، وبين رفيق الحريري. توطدت العلاقة، وصار الرجلان يلتقيان كل عشرة أيام في باريس. كان اتفاق الطائف خلف الباب، ونهاد وجوني عبدو يشاركان في النقاشات وتقييم الأوضاع.
في العام 1990، قال الحريري للمشنوق: «هلق بدك تشتغل معي، رسمي»، لكن موقع نهاد عند السوريين كان لا يزال «صوفة حمراء». فرتّب أموره مع اللواء غازي كنعان، بواسطة ضابط صديق، وعاد إلى بيروت. كان الحريري ميالاً إلى إيقاف العمل بمشروع «سوليدير» بسبب الهجوم عليه، والمشنوق مقتنع تماماً بأن «مزبلة الوسط التجاري، بعد الحرب، بحاجة إلى عملية استثنائية، ولن تحصل برضى كل الناس». أقنع الحريري بتسليمه الملف، حتى سار به، بعد مشقة، إلى النور. وقبل ذلك، كان المشنوق قد لبى، مع باسم السبع، استدعاء إلى جدّة، حيث مكث 17 يوماً لمناقشة وكتابة أول خطاب ألقاه الحريري في حفل تخرج الجامعة الأميركية في بيروت ـ 1992، عندما قدّم نفسه كشخصية عامة لبنانية. ولغاية العام 1998، وعبر المراحل السياسية المختلفة، ظل المشنوق يداً حريرية يمنى، مكتسباً سمة «منجز الملفات». وظيفته بالضبط؟ «كل شيء.. فعلاً كل شيء!».
ثم ارتحل نهاد إلى «منفاه» الشهير، ومرّت علاقة الرجلين بصعود وهبوط، «وبعدما فهمت حجم الضغط الذي كان يمارس على رفيق الحريري، ندمت لأني تركت جرحي يعكر بعض الفترات بيننا».
لعل نوعاً واحداً من العلاقات لم يتعكر، على امتداد تلك المرحلة، وراهناً: رابط العشق بينه وبين مدن المشرق ـ اسطنبول ودمشق، مراكش وبغداد، كما بيروت. فوق طاولة العمل بهلوانات في صندوق، بريشة الأرمني «فاهران». وفي غرفة الاجتماعات «مراكش ليلاً»، كما رآها المغربي «نوفل»، تمتد على حائط بأكمله. يدخل غرفة خلفية ويعود بقرآن كتب بخط اليد، عمره أكثر من ثلاثمئة عام. يقول إنه يحتفظ، في مخزن خاص، بأكثر مما يعرض في بيته ومكتبه. يزور ذلك القبو باستمرار لتفقد مجموعته العزيزة، غرضاً غرضاً.
في صدر مكتبه اليوم «أفيش» فيلم لألفرد هيتشكوك: «الرجل الذي عرف أكثر من اللازم». هدية صديق ظريف، يوم عودته الرابعة القريرة إلى مدينته الأم.