هبوط اليمن السعيد إلى الجحيم

...على الرغم من أنه لم يعد سعيداً منذ زمن، فهو اليوم يقف على أبواب أفظع ما يمكن أن يُصيب بلداً ومجتمعاً: الحرب الأهلية! صرخات الاستغاثة تتردد في فضاء اليمن، لكنها تبدو مكتومة. تماماً كما يحدث في الكوابيس، حين يصرخ واحدنا فزِعاً، لكن صوته لا يخرج، ما يضاعف الهول. كأن التربع على المرتبة الـ149 لمؤشر التنمية البشرية (من أصل 177 دولة) لا يكفي. كأن الفقر المدقع لا يكفي. تعاني منه الأغلبية الساحقة من الاثنين وعشرين مليوناً (40 في المئة من اليمنيين يحصّلون أقل من دولار واحد في اليوم)، في هذه البقعة المترامية الأطراف، على أكثر من نصف مليون كيلومتر مربع، حيث الماء والنفط والغاز والموقع الاستراتيجي.
هذا كله لا يبدو حامياً ولا رادعاً، كما لا تفعل عظمة الميثولوجيا. هل ينفصل بلد عن أساطيره، تلك التي تكوّن روحه، ولا يشفى منها؟ يقولون، هي خيالات خُرافية: يا لسخافة تطلب الحقيقة البرهانية، وتناقضها مع الواقع كما يدركه أصحابه. يقولون، هو ابتعاد الأثر: لكن هل يُذكر اليمن حتى اليوم دون حضور سد مأرب ومملكة سبأ، ودون ملكته التي تبارت في الحكمة مع سليمان الحكيم؟
حرب أهلية وشيكة في اليمن! كأن المنطقة لا تكفيها كارثة فلسطين التي لم تتعامل معها بما يتطلب الموقف منذ أكثر من ستين عاماً، ولا تزال. وكارثة العراق، التي تُركت تَحل به عمداً، وما زالت. ثم هناك الكوارث المهملة، كالسودان. أما الصومال، فمشاهد ما يجري فيه سريالية، خارجة من زمن آخر. ما الذي سيحل بالعربية السعودية إن راح اليمن إلى الاحتراب والتفكك والفوضى التامة؟ وكيف ستتغير، أيضاً وأيضاً، مورفولوجيا المنطقة بأكملها؟
حرب أهلية باتت كل الأطراف تركض باتجاهها: الذين نصّبوا أنفسهم ناطقين باسم اليمن الجنوبي، وهم خليط يبدأ من لدى علي سالم البيض الرئيس السابق لليمن الجنوبي اليساري سابقاً ـــــ وتكرار «سابق» يريد الإشارة إلى الزوال وليس إلى الاستعادة ـــــ وتنتهي عند أبناء مشايخ وسلاطين تلك البقعة من البلاد، مروراً بمجموعات تستوحي «القاعدة» إن لم تكن ترتبط بها، وهي اليوم تتحالف مع الطامحين إلى استعادة السلطنات التي قد تصبح إمارات! يسود لدى اليمنيين الجنوبيين، على تنوعهم، شعور بأنهم تحمّلوا حيفاً لا مبرر لاستمراره، وصُمّتْ عنهم الآذان، وقُمعوا بعنف مراراً، ولن ينسوا ما جرى لهم في 1994، حين احتلت منطقتهم من الجيش الشمالي بدعاوى الحفاظ على الوحدة، ودمرت أملاكهم ونزعت ملكية الأراضي الخاصة والعامة، ووزعت هبات على شماليين من أتباع النظام، وسُرّح أكثر من ستين ألف ضابط وجندي بذريعة «جنوبيتهم»... هذا عدا آلاف المعتقلين. ولن ينسوا أخيراً إغراق تظاهرة عدن في كانون الثاني 2008 بالدماء. وباختصار، يشعرون بأن كل تاريخ هذه الوحدة، منذ 1990 وحتى اليوم، مليء بالاستغلال والاستغفال... بينما 80 بالمئة من الثروة النفطية والغازية تقع في الجنوب.
في شمال البلاد، يستمر تمرد آخر لمن يرون في الوضع ما يحيف عليهم هم أيضاً. ما يُعرف بانتفاضة محافظة «صعدة» بقيادة الحوثيين، تستنفر عصبية زيدية تكتسب مغزى طائفياً بحكم الزمن السائد. فتبدو كأنها تحرك شيعي ضد الحاكم السني! والزيديون كانوا أئمة اليمن منذ الإسلام الأول وحتى الإمام بدر، آخرهم الذي انقلب عليه عسكرياً عام 1962 الكولونيل الزيدي الشيعي الناصري عبد الله السلال! وهم أغلبية ساحقة في القسم الشمالي من البلاد، ويمثّلون على أية حال أقل بقليل من نصف مجمل السكان. وقد وصلت جحافلهم العام الفائت إلى ما يقرب من ثلاثين كيلومتراً شمال شرق صنعاء. وهم أيضا قُمعوا بلا رحمة ولا تروٍّ، بينما ضربت بأربعة أضعاف أسعار المحروقات وتضاعف ثمن القمح، وسيطرت جماعة الرئيس في انتخابات المحافظات الماضية على 18 من أصل عشرين محافظة! يا للعجب، من أين يأتي المتمردون إذاً؟
أما النظام الحاكم في اليمن الموحد، وعاصمته صنعاء، فينجح رئيسه بنسبة 96 في المئة في الانتخابات، ويهيئ ابنه لخلافته، وتحيط بعائلته أخبار الفساد التام في بلاد تعوم في الخراب والبؤس، ويرفض الاستماع إلى ما هو محق من المطالبات، ويعالج كل شكوى بالحديد والنار... بدعوى أنه مؤتمن على الوحدة، أو أنه يحارب الإرهاب! فقد تقدم «اللقاء المشترك»، الذي يضم الحزب الاشتراكي، حاكم اليمن الجنوبي سابقاً، والتجمع اليمني للإصلاح وهو إخواني الطابع، وبعض أحزاب أخرى كالبعث والناصري، وحزبين شيعيين صغيرين، بمشروع لتوافق وطني يركّز على آليات إنشاء دولة القانون، وعلى تدابير اقتصادية واجتماعية تكسر حلقة اللامسؤولية والفساد وتخبّط الإدارة وانحدار شروط معيشة الناس. كانت محاولة لإحداث توافق وطني قد يقطع الطريق على انفجار الموقف تماماً، فقوبلت بالازدراء، لأن السلطة تعمي من يمسك بها وتخدّره، فلا يفيق إلا حين يموت!